الاثنين، 8 نوفمبر 2010

التعقيد الإداري
طريق إلى الإحباط

تعد الإدارة مرآة لتطور سلوك أفراد المجتمع، وبواسطتها يطل الإنسان على نضج نمو ذكاء الشعب الذي تربطه علاقة مباشرة بإدارته .. وهذه العلاقة هي التي تحدد قيمة المواطن في بلده، ومدى فعاليته في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وهكذا فقد أصبحت الإدارة وسيلة للمساهمة في تطور وعي المواطنين من خلال السلوكيات التي تفرضها هذه الإدارة، ومنها على سبيل المثال، الثقافة الإدارية التي يجب تربية الناشئة عليها، وبذلك لامحالة يتكون اقتناع بهذه السلوكيات، لأن من شأنها تخفيف العبء الثقيل على المواطنين، سواء من حيث المدة الزمنية، أو من حيث إعفائهم من كثرة المصاريف وتعدد الوثائق، أو علاقتهم مع المسؤولين، المدعوين بالدرجة الأولى إلى تحديد المسؤوليات، وإعطاء تعليمات لتسهيل العمل الإداري، من أجل ضمان الراحة للذين هم في حاجة لقضاء أغراض معينة يحتاجونها في الجهاز الحكومي، (وقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لاحياة لمن تنادي ..!)
وقد يتولد عدم الاقتناع بالسلوك الإداري نتيجة للخروقات التي ينهجها بعض أفراد الإدارة، الذين يستغلون مناصبهم، ونفوذهم أثناء ممارستهم لمهامهم، ويتعاملون بأسلوب الزبونية التي تخلق الامتيازات بين أبناء الوطن، كإعطاء الأولوية لجنس دون آخر (الجنس اللطيف أولا) وينتج عن هذا إخضاع المغلوبين على أمرهم بسبب الأمية المتفشية في المجتمع المغربي، واللاوعي إلى رغبات أولائك المستغلين، فتتحول العلاقة من عمل شريف إلى ضاغط ومضغوط عليه بواسطة وسائل وطرق مختلفة -الوساطة .. الزبونية .. الرشوة - أجل الرشوة، الزبونية، والوساطة من أهم العوامل التي تفقد العمل الإداري محتواه النبيل، وتحوله إلى مجرد عمل خسيس يجلب أثارا وخيمة على المجتمع، فيصبح مجرد النفكير في الذهاب إلى إدارة ما .. من أجل قضاء غرض ما، بمثابة كابوس يقلق راحة المواطن ويقض مضجعه، وقد يمثل له في غالب الأحيان أنه ذاهب إلى الجحيم .. لأن طلب وثيقة إدارية من حق المواطن الحصول عليها يصبح أمرا عسيرا ومملا للغاية، وهذا ما يجعل المواطن ينفر من سماع كلمة ( إدارة ) ويعمل بالمثل القائل كم حاجة قضيناها بتركها، "في الحقيقة ماأحوجنا لثقافة التسهيل والتيسير والرحمة بالناس."
ونظرا لأهمية موضوع الإصلاح الإداري بالمغرب في الوقت الراهن، هذا الإصلاح الذي في الحقيقة ما زال يراوح مكانه, وفي أحسن الأحوال يشق طريقه بخطوات هي أقرب إلى خطوات السلحفاة، وما يتطلبه العهد الجديد لمواجهة تحديث العصر، فأقول أيضا أن هذا الإصلاح لم يرق بعد إلى المفهوم الجديد للسلطة، الذي أعلن عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بالدارالبيضاء في 13 اكتوبر 1999، والذي ينبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية، والحريات الفردية والجماعية وعلى صيانة الحقوق، وعلى مكاتب مفتوحة في وجه المواطنين، ولو احترمت مضامين الخطاب المشار إليه واتبع المسؤولون بإداراتنا إشاراته، وطبقوا تعليماته، لسارت الإدارة المغربية وفق القواعد القانونية المرسومة لها، التي من شأنها أن تضمن لها الوصول إلى الهدف المنشود، الشيء الذي يساعدها على تطورها وفعاليتها على مختلف الأنشطة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية وكذا الثقافية، ولكن الملاحظ أنه في ظل نظام محدد من طرف المشرع، فقد تتفتق عبقرية بعض رؤساء المصالح ومدراء الإدارات، وباجتهاد لحاجة في نفوسهم، يعملون على وضع عراقيل تقف في وجه المواطنين، ولاتخدم المصلحة العامة للبلاد، الشيء الذي تكثر معه رفع الشكايات والاحتجاجات، وتنتج عنه اصطدامات، ودائما وكما جرت العادة يكون الجواب .. النقص في عدد الموارد البشرية، وخصاص في الآليات وغير ذلك من التبريرات الواهية، بينما الحقيقة تكمن في السياسات المعتمدة في تعيين المسؤولين، الذين تفرزهم الزبونية ، - وهنا لاأعمم - لأنه ليس الكل سيء كما قد يعتقد البعض، فهناك رجال أحرار يتمتعون بنخوة ومروءة، رجال تنبض قلوبهم بالوطنية الحقة، تراهم يبذلون المجهودات الجبارة من أجل أداء المهمة الملقاة على عاتقهم بمهنية وبتفان.
وإذ أتناول اليوم هذا الموضوع، فاني أريد أن أذكر- مادامت الذكرى تنفع المؤمنين- ببعض المشاكل التي تعاني منها الإدارة المغربية، وان ما يمكن قوله هو: أن هذه المشاكل أصبحت اليوم متعددة ومتشعبة، لكن يمكن تحديدها بصورة إجمالية في ثلاثة نقط أساسية مرتبطة ببعضها البعض .. فمن جهة، هناك التعقيد الذي تعرفه مساطر الإدارة، ومن جهة أخرى هناك بطء سيرها، وهناك كذلك الموظف الذي يفرض سيطرته داخل الإدارة، ويعتبرها ضيعة في ملكه .. يتصرف فيها كما يتصرف صاحب الدابة في حبلها .. يطلقه متى شاء ويشده متى يشاء.
فبالنسبة للتعقيد الذي تعرفه الإدارة، تنبغي الإشارة هنا إلى المساطر المتبعة والتي يمكن أن يعاب عليها، هو كثرة الوثائق المطلوبة من أجل انجاز( وثيقة واحدة ) من جهة، ثم غياب التنسيق بين الجهات التي تجري أمامها هذه المساطر من جهة أخرى، لنأخذ مثلا بسيطا على ذلك، من أجل الحصول على بطاقة التعريف الوطنية، يلزم الطالب إحضار شهادة السكنى من المقاطعة الحضرية التابعة لها سكناه - وهذا ليس بالأمر الهين، لأن هناك سلطة مقدم الحي وبعده الموظف، فضلا عن تقديم شهادة الولادة، و.. و الخ- ثم استبدال هذه الشهادة بشهادة سكنى أخرى يحصل عليها من الدائرة الأمنية التي يقع سكنه تحت نفوذها، - ناهيك عن ما تتطلبه هذه الوثائق من مصاريف قانونية وأخرى ماأنزل اللـه بها من سلطان .. ومن طلوع وهبوط وانتظار- وهكذادواليك، ليصبح في الأخير متوفرا على بطاقة واحدة تضمن له مواطنته، وقد استبشر المواطنون خيرا عند الانطلاقة الأولى للبطاقة البيوميترية الجديدة، لما أقدمت الإدارة العامة للأمن الوطني على تغيير حجمها ومضمونها، وأشيع آنذاك بأنها قد تكون بمثابة مكتب لعدة وثائق رسمية، وقد تعفي حاملها من اللهث وراء عقد الازدياد .. شهادة الإقامة.. شهادة الحياة .. وشهادة الجنسية، ولكن لاشيء تغير في الأفق، فما زالت دار لقمان على حالها، ودائما في هذا السياق، فمن أراد تغيير مهنته في ذات البطاقة، ففضلا عن إجراءات الحصول على شهادة السكنى من المقاطعة، يلزمه الإدلاء بشهادة إدارية خاصة بالعمل، تسلمها المقاطعة الحضرية التابع لها مقر عمله، هذا بالنسبة للعامل والقاطن في نفس المدينة أوالحي، فما بالك بظروف الذي يعمل بمدينة ويسكن بأخرى، فكم يكفيه ياترى من (سير وآجي) لقضاء مثل هذا الغرض ..؟ هذا نوع من المشاكل التي يتخبط فيها المواطن المغلوب على أمره باستمرار، بيد أن الأمر لايتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه، بحيث أن هذا المواطن الذي لايجد من يسانده ولا من يشفق على حاله الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لايسر الناظرين، فقد تراكمت عليه هموم الدنيا من كل حذب وصوب، حتى أصبح يتدحرج ككرة بين الأرجل، تارة يقدفه غلاء الأسعار واكتفاء الحكومة بالتفرج من بعيد على قدرته الشرائية التي تتدهور يوما عن يوم، و أخرى، تصفعه القوانين اللاقانونية التي تفصل على هوى المالكين لزمام الأمور، وأدرج هنا - تعميما للفائدة - وهذه المرة يتمثل في نوع آخر من التعقيدات، تلعب دور البطولة فيه الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية - وقس على ذلك العديد من الإدارات الأخرى- مثلا كل من وجد نفسه في حاجة إلى استخراج نسخة مطابقة لأصل رسم يهمه من الوكالة المشار إليها، عليه أداء الواجب، علما أن الرسم أوالوثيقة المطلوبة تعود ملكيتها أساسا لصاحب الشأن، لكن بمجرد ماتقع عليها أيدي موظفي الوكالة تصبح ملكا لهذه الأخيرة، ويفرض على صاحبها أداء واجبات من أجل التملي برؤيتها، ضف إلى ذلك البطء في تحرير مختلف الملفات المودعة لدى هذه الأخيرة، - وكاتب هذه السطور يعد واحدا من ضحايا التعقيدات والبطء - بحيث عمرت مسطرة ملف يخصه لأزيد من ثماني سنوات، ولازال لحد كتابة هذه السطور يعاني بين جدران الوكالة المذكورة من الابتزاز واختلاق العراقيل، وكلما احتج على الوتيرة أو نوع المعاملة، إلا ويواجه بالجواب الجاهز .. قلة الموظفين وكثرة الملفات - رغم أن الدكاترة وحاملي الشهادات العليا تتزحلق فوق رؤوسهم هراوات رجال لعنيكري صباح مساء أمام باب البرلمان - والجميع يرد البطء إلى قلة الموظفين (ياللمصيبة).

وقد بلغني باستغراب مؤخرا ما جادت به عبقرية بعض فقهاء تكديس الثروات على حساب لقمة عيش المسحوقين، الأمر هذه المرة يتعلق بسن قانون جديد يخص تجديد البطاقة الرمادية للسيارات بالمغرب، ورخصة السياقة التي أرادوا لها أن تكون بحجم صغير يضاهي حجم رخص السياقة بأوروبا، ولكن بفرض رسوم إضافية .. نعم نحن مع التجديد، ومع العصرنة، ولكن لسنا مع فرض مصاريف إضافية تثقل كاهل المواطن، ووصول الجهة التي ابتكرت فكرة التجديد إلى هدفها على حساب جيب المواطنين الذين لاحول وقوة لهم، لأن من يقول تجديد رخصة السياقة، يقول أوتوماتكيا أداء مبالغ مالية لإدارة الضرائب، والجدير بالإشارة أيضا مادمت أتحدث عن رخصة السياقة، أنه أصبح من الواجب على من أراد تبديل رخصة السياقة المؤقتة بأخرى دائمة بعد انصرام عام، عليه دفع رسوم جديدة تبلغ 100 درهم مع شراء المطبوع الخاص بهذه العملية طبعا، مع أن الطريقة الصحيحة والسليمة التي كان من واجب وزارة النقل والتجهيز اتباعها، هي عدم تحميل المواطنين الأتعاب المادية للتجديد الذي اختارته، لأن المعنيين بالأمر أدوا تلك الواجبات سابقا، ومن الظلم أن يجبروا على إعادة الأداء لغاية في نفس الوزارة، ولكن يتضح أن الأخيرة لايهمها المغاربة في شيء، بقدر ما يهمها ما في جيوبهم، وإهدار أوقاتهم وجهودهم.

وبعد هذه الجولة السريعة والمفيدة طبعا على أهم محطات المشاكل الإدارية، وكذا انعكاساتها على المجتمع والمواطن على حد سواء، أستطيع القول بأن المشاكل التي تعرفها الإدارة ليس من الصعب معالجتها، فالحلول من الممكن إيجادها، إلا أن الشرط الأول والأساسي لذلك، هو أن تكون هناك إرادة سياسية حازمة، يكون من أهدافها الرئيسية وضع المصلحة العليا فوق كل اعتبار، ومن تم ضرورة إيجاد تشريع جديد يواكب التطورات التي يعرفها العالم اليوم، خصوصا في إطار ما يسمى حاليا بقضية العولمة، وذلك بهدف تبسيط المساطر، وتحديد المسؤوليات بدقة، وحث الموظفين على أداء وظيفتهم التي يتقاضون عنها المقابل من أموال الشعب، وفق ما يقتضيه الضمير المهني والواجب الإنساني، بعيدا عن سلك طرق ملتوية لقضاء أغراض الناس، وكل مايرمي إلى ابتزازهم ودفعهم إلى تقديم إتاوات من أجل الحصول على حق يقره دستور البلاد.

وأرى في الختام أن أي إصلاح لايمكنه أن يتم إلا بنمو القانون الإداري، لأن هذا الأخير هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه دولة الحق والقانون، وهو سر نجاح الدول وفشل أخرى، وخلاصة القول أن جميع المشاكل التي يعاني منها المغرب، سواء في مجال التعليم .. الاقتصاد، الإدارة أو العدل، هي مشاكل ناتجة عن طريقة وضع الرجل الغير مناسب على هرم المسؤولية، - وهذا يلاحظ في العديد من الإدارات المغربية - ويمكن كذلك إرجاعها أساسا إلى عامل توزيع خيرات البلاد - التي ينعم بها البعض دون الجميع - فغياب توزيع الدخل القومي توزيعا عادلا سيظل من المعوقات الإنسانية التي يصعب على التحليل أن يتنبأ بعواقبها على استقرار البلاد.

24 يونيو 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق