السبت، 29 يناير 2011

إن رحل  بنعلي ..
فبنعليون آخرون في كل الأقطار باقون ..!


أمسكت القلم مركزا على الورقة، انتظر عقلي أن يرسل كما هي العادة بمخزونه للقلم ليكتب شيئا ما .. طال الوقت .. ولم يكتب القلم حرفا واحدا .. الورقة لازالت أمامي  بيضاء كما هي  .. تساءلت فى عجب: " كبف ياقلم، لا تطاوعنى  وأنت دائما صديقي في  درب  الكتابة ..؟ "  لم أجد جوابا شافيا،  ثم  حوقلت وحمدلت ما شئت، وتساءلت  مرة أخرى في عجب ، ماذا حدث، هل انتهى الكلام ..؟ هل مشاكل الدنيا  انتهت ..؟ هل جف القلم ..؟ أم أني  تعبت من الكتابة ..؟

وبعد هنيهة .. اتضح لي أنه لا هذا ولا ذاك حصل، انه فقط،  الحدث  .. الحدث   الذي هو أكثر وأكبر من أن يستوعبه عقل أو يتحمله قلم، حدث ثورة الشعب التونسي الشقيق، حدث طغى بمعنى الكلمة على كل شيء، رغم  برودة الطقس  وتقلباته .. ورغم انشغال العباد بما تعرفه جل بلدان المعمور من حوادث وفيضانات وكوارث طبيعية، وإضرابات عن العمل، واعتصامات  ومظاهرات  في الشوارع العامة .. و.. والخ،  حدث جعل بعضهم يتنفس الصعداء، بمجرد سماع النبأ، الشيء الذي  مكنهم من استرجاع حاسة  النطق، وسمحوا لألسنتهم بإطلاق الكلام على عواهنه، وقالوا كل شيء، ولم يقولوا شيئا ..  ودون حياء، استرسلوا في سرد كل ما يسيء إلى النظام التونسي المغضوب عليه.

 نعم .. هنيئا لكم  على تطاولكم  أيها الجبناء، لقد خلا لكم الجو، ونسيتم أيام كنتم تركعون لذات النظام لتقبيل يديه، وتسجدون له وأنتم صاغرون، وكنتم تحيطونه بهالة لا نظير لها، كما كنتم تتسابقون ككلاب القنص وأنتم تلهثون لمباركة سياساته، التي أصبحتم بعد سقوطه الآن، تقولون إنها كانت خاطئة، وماذا كان يمنعكم من انتقاد النظام والجالس على كرسيه قبل اليوم ..؟ ألم تكن لكم امتيازات مقابل  سكوتكم ؟ ألم تنعموا "كما نعم" النظام بخيرات البلاد، ونهبتم يمنة ويسرة ؟ مساكين ..! ثوار تونس  ..- لا أقصد الشعب-  سياسيوها  .. ومن يتعاطف معهم، الآن وبعد فوات الأوان، أصبحتم تصولون وتجولون، وتبتكرون الخطب الرنانة بجرأة لم تعهد فيكم من قبل، لماذا الآن ؟ ألم تكونوا تمارسون السياسة آنذاك، ألم تكونوا قد بلغتم سن الرشد، أو ألم يكن شأن تونس الحبيبة يعنيكم كما هو اليوم ..؟

لهذا أرى، ويرى معي كل منصف، أنه لا فائدة  ترجى من فتح صحيفة الاتهامات -لأن ليس في القنافد أملس-  وليس من المعقول أن ينشغل الجميع  بالماضي الذي لايفيد، بل يلهي فقط عن ما هو جدير القيام به حاليا، كالتصالح مع الشعب والذات، والتفكير في السياسة الحكيمة والتخطيط الرشيد، وما عدا هذا، لا أرى فيه إلا تضييعا للوقت، كما فعلت - مرغمة - تلك المرأة من الزمن القديم مع أطفالها الجياع، حين لم تجد ما تطعمهم به عشاء، حيث باتت ليلتها المسكينة تلهيهم بوضع قدر مملوءة بالماء والحجر على النار، وهي توهم الصغار وتشغلهم عن البكاء بأن  هناك طعاما يطهى حتى غالب النوم جفونهم، وناموا وهم لا يلوون على شيء ..! (والفاهم يفهم) .

لم أكن على استعداد لأن أدلي  بدلوي  في هذا  الموضوع ، لولا تحرك  الذين حذوا حذو محرك  الثورة، (البوعزيزي)  الذي ذهب ضحيتها احتراقا، غضبا على الوضع، وقد ساندته طوائف الشعب التونسي بكل مكوناته، إضافة إلى مواطنين آخرين خارج حدود تونس، إذ أصبحنا مع بزوغ فجر كل يوم جديد، نسمع عن محاولة أحدهم بالإقدام على إضرام النار في جسده .. موضة انتشرت عدواها،  وبخاصة بين مواطني المغرب العربي الكبير فقط،  دون غيرهم ممن  يعدون من المطحونين تحت رحى الفساد، وهم كثيرون في جميع بلدان العالم، ودون معرفة مغزاها من طرف الذين اتخذوها كسلاح لطلب حقوقهم، "كل شيء بات عجيبا في هذه الأمة العربية"  زد على ذلك، انتفاضة الكثير من الذين يحلو لهم الاصطياد في الماء العكر، والذين  يقتنصون الفرص للظهور ولو على حساب مآسي الغير، والذين قالوا في حق "ثورة الياسمين" ما لم يقله مالك في الخمر.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فمن جملة الانتقادات التي وجهت للنظام التونسي السابق، على ألسنة  العديد من الأشخاص، وعلى الخصوص،  بعض الملاحظين والكتاب  و المتتبعين المغاربة، أنه (النظام) كانت أعينه ملازمة  للمصلين ومواظبة على مراقبتهم  ورفع التقارير عنهم، ولم يكن يسمح للتلفزيون التونسي برفع آذان موعد الصلوات، جميل .. ولكن الأجمل منه، لماذا نذهب بعيدا أيها السادة، إذا كان هذا الفعل يستوجب فعلا إلقاء اللوم على نظام تونس المنهار، فلماذا نذهب بعيدا إذن، ونعمل بالمثل الذي مفاده ( الجمل ما كيشوف غير كعبوبة صاحبو ) فنحن في المغرب أيضا نعيش نفس الوضع، عندنا قناة وطنية، تعمل فوق أرض  وتحت سماء المغرب  ..  تمول من جيوب الشعب،  ولا أثر لصوت الآذان ضمن برامجها، ولا تنقل عبر شاشتها  صلاة الجمعة، ورغم هذا الوضع السائد منذ قديم، لم يجرأ  أحد من (صلاح) زمننا هذا (المزعومين) على تغيير المنكر،  وليس هذا فحسب، بل تتحاشى  حتى الدعاء بالنصر لعاهل البلاد، بحيث تكتفي قناتنا الموقرة  فقط بذكر اسم الملك، كلما دعت الضرورة إلى ذلك في  إحدى نشراتها، دون أن تتبع ذلك  مثلا ب. ( نصره أو حفظه اللـه،  أو أي شيء من هذا القبيل)، إذن لماذا السكوت عن كل هذه الأخطاء التي تعيش بين ظهرانينا، بينما في الوقت نفسه، نشير بأصابيع الاتهام إلى الغير، مما يجعل الآية الكريمة التالية تنطبق علينا "... أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"  صدق اللـه العظيم.

أنا لست ضد توضيح الأمور، بقدر ما أنا ضد النبش في ملفات الماضي، والركون  لليؤس  
والإحباط
، وإهمال الحاضر، والعمل على ضياع المستقبل  .. نحن أبناء اليوم، علينا أن نتخذ المواقف بالحرص الشديد، حتى لاتتكرر المأساة على أجيالنا القادمة، ونقول من جديد " قفا نبك " علينا أن لا نترك المجال لرؤوس أخرى  (تغلاض)  وبطون تنتفخ بخيراتنا ونحن نموت جوعا وبؤسا، يجب أن نجيد الاختيار لنضع الرجل المناسب في المكان المناسب .. أما (بنعلي) فما هو  إلا نموذج، فان رحل، (فبنعليون) آخرون في كل الأقطار باقون ..!